لم يكن قد تجاوز التاسعة عشر من عمره عندما كان يقف في كشك لبيع عصير الفاكهة والحليب المخفوق في كشك بحي كامدن تاون. المكان النابض بالحياة بمقاهيه ومطاعمه ومراكزه التجارية في شمال غرب لندن. لقد كان محبطًا للغاية، فهو الشاب الذي يحمل في أعماقه روح رائد الأعمال، وجد نفسه محاصرًا بين دراسة الفلسفة في جامعة أكسفورد التي كانت «نظرية للغاية» وبين الحاجة الملحة للعمل لتوفير المال، لكن بعد سنوات تغير كل شيء في حياة ابن المهاجر السوري سائق التاكسي بلندن، ليتحول إلى مصطفى سليمان رئيس شركة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي، الذي يعمل جنبًا إلى جنب مع ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت، بعد أن كان في منصب نائب الرئيس في شركة غوغل لسنوات قليلة، وقبلها مؤسس مختبر الذكاء الاصطناعي الشهير «ديب مايند»، وشركة الذكاء الاصطناعي «إنفليكشن إيه آي»، فمن هو مصطفى سليمان، وما هي قصته؟، وكيف ارتبط بعالم الذكاء الاصطناعي؟
اقرأ أيضًا.. فاضل أديب.. من طرابلس إلى «نوابغ العرب»: أنا لا أعرف المستحيل!
النشأة والتعليم
ولد مصطفى سليمان في عام 1984، بشمال لندن، ابنًا لأب من أصول سورية وأم إنجليزية تعمل في التمريض. ترعرع في ظروف مادية متواضعة، التحق بمدرسة ثورنهيل الابتدائية ثم مدرسة الملكة إليزابيث، وهي مدرسة للبنين في بارنت، وعندما أتم السادسة عشر، واجه تحديات جديدة بانفصال والديه وهجرتهما للخارج، تاركينه هو وشقيقه الأصغر يعتمدان على نفسيهما. لاحقًا، نال فرصة للدراسة في جامعة أكسفورد، حيث اختار تخصص الفلسفة واللاهوت، لكنه لم يستمر سوى عام قبل أن يقرر التوقف عن الدراسة.
«شعرت بخيبة أمل لأن الكلية التي التحقت بها كانت نظرية للغاية. في أعماقي، كنت رائد أعمال. أثناء دراستي في أكسفورد، كنت أمتلك كشكًا في كامدن تاون لبيع عصير الفاكهة والحليب المخفوق. ولهذا، كنت أعود في الصيف لتحقيق دخل لأنني كنت بحاجة إلى المال. في الوقت نفسه»، يقول «سليمان» في مقابلة سابقة مع صحيفة الغارديان البريطانية.
انفصال الوالدين وفكرة الروبوت البديل
لقد ترك انفصال والديه وغياب الدعم الأسري الذي يحتاجه أثرًا كبيرًا على نمط تفكيره، ويبدو أنه قد استثمر هذا التأثير، «ما يبدو أننا لم نقدره بعد هو تأثير الأسرة. لأنه بغض النظر عن مدى ثرائك أو فقرك، أو الخلفية العرقية التي تنتمي إليها، أو جنسك، فإن الأسرة اللطيفة والداعمة يمكنها منحك دفعة كبيرة». يقول سليمان، الذي يعتقد أنه وجد هذا الداعم البديل في الذكاء الاصطناعي، «أظن أننا وصلنا إلى نقطة في تطور الذكاء الاصطناعي حيث بإمكاننا توفير الدعم والتحفيز والتأكيد والتوجيه والنصح. لقد استطعنا تحويل الذكاء العاطفي إلى شيء ملموس. وأعتقد أن هذا سيفتح آفاقًا جديدة للإبداع لملايين الأشخاص الذين لم تتح لهم الفرصة من قبل».
يرى رئيس شركة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي الحالي، أن روبوتات الدردشة الآلية يمكن أن «تسد الفجوات التي يعاني منها الناس»، وفقًا لمقابلة مع صحيفة الغارديان، وربما كان ذلك الدافع وراء تفكير سليمان في أن الطريق إلى الذكاء الاصطناعي العام يبدأ مما يصفه بالذكاء الاصطناعي القادر (ACI) وهو نوع من الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على إشباع حاجات الإنسان، ويعمل كمساعد شخصي وطبي ومستشار. وفقًا لما ذكرته مجلة تايم، هذا سيجعل الجميع أكثر ثراءً وصحة وإنتاجية.
اقرأ أيضًا.. سلطان النيادي.. من هو صاحب أطول مهمة فضائية في تاريخ العرب؟
تأسيس شركة ديب مايند
كان مصطفى سليمان، في مقتبل العمر، مراهقًا في المملكة المتحدة، عندما تعرف على عبقري البرمجة ديميس هاسابيس، الأخ الأكبر لصديق المدرسة. سرعان ما تقاربا، مدفوعين بشغف مشترك ورؤية استراتيجية لما يحمله المستقبل بعد عشرين عامًا.
بمرور الوقت، تحولت هذه العلاقة إلى مفصل أساسي في مسارهما المهني، حيث ارتقى سليمان وهاسابيس إلى مصاف الرواد في مجال الذكاء الاصطناعي. في عام 2010، انضم الاثنان إلى شان ليغ لتأسيس ديب مايند، المختبر الرائد في الذكاء الاصطناعي، الذي قلب موازين الصناعة بتطوير AlphaGo، البرنامج الذكي الذي تغلب على أبطال العالم في لعبة الغو الاستراتيجية. وسرعان ما اكتسبت ديب مايند مكانة بارزة وحصلت على الدعم من شخصيات بارزة مثل الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، وسكوت بانيستر، من بين آخرين.
أصبح مصطفى سليمان، مديرًا رئيسيًا للمنتجات. كانت مهمة ديب مايند هي تطوير الذكاء الاصطناعي العام، الذكاء الاصطناعي بقدرة على التكيف تشبه قدرة الإنسان. كان أول المنتجات هو روبوت الدردشة الآلي به، Pi، الذي تم تصميمه ليكون أكثر ودية ودعمًا من ChatGPT.
التحول إلى الثراء
بعد 4 أعوام، تحول سليمان إلى الثراء. استحوذت غوغل على شركة ديب مايند في عام 2014 مقابل 400 مليون جنيه إسترليني، ما يعادل الـ500 مليون دولار، بما يمثل أكبر عملية استحواذ لشركة في ذلك الوقت، وهو ما أدخل سليمان وباقي المؤسسين في قوائم الأثرياء.
وبعد الاستحواذ، أصبح سليمان من كبار الضاربين في شركة غوغل وشغل منصب نائب رئيس الذكاء الاصطناعي. المنتجات وسياسة الذكاء الاصطناعي، والمشرف على تكامل تكنولوجيا منتجات غوغل المختلفة.
وفي فبراير من العام 2016 أطلق شركة ديب مايند هيلث (DeepMind Health)، بهدف بناء تقنية يقودها الأطباء لهيئة الخدمات الصحية الوطنية والشركاء الآخرين لتعزيز خدمات الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية.
وفي عام 2016 أيضًا قاد سليمان جهودًا لتطبيق خوارزميات التعلم الآلي الخاصة بـ ديب مايند للمساعدة في تقليل الطاقة المطلوبة لتبريد مراكز بيانات غوغل. قام النظام بتقييم مليارات المجموعات المحتملة من الإجراءات التي يمكن لمشغلي مراكز البيانات اتخاذها، وتوصل إلى توصيات بناءً على الاستخدام المتوقع للطاقة. اكتشف النظام طرقًا جديدة للتبريد، مما أدى إلى تقليل ما يصل إلى 40% من كمية الطاقة المستخدمة للتبريد، وتحسين بنسبة 15% في كفاءة الطاقة الإجمالية للمباني.
اقرأ أيضًا.. استقلال زاده «التقنيات الحديثة».. عرب على طريق «الحرية المالية»
الخروج من غوغل
في أغسطس من عام 2019، أُعطي سليمان إجازة إدارية إثر اتهامات بالتنمر على العاملين. وقد استعانت الشركة بمحامٍ مستقل لإجراء التحقيقات، ولم يلبث أن ترك سليمان الشركة ليشغل منصب نائب الرئيس في الشركة الأم، غوغل.
لم تكن مسيرة سليمان في التنقل بين سياسات الإدارة ميسرة دائمًا بالنسبة لجيله الجديد. وقد وجد نفسه مُبعدًا عن دائرة الضوء في الشركة إلى حد ما. وفي عام 2021، كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أنه أُعفي من مهامه الإدارية بالشركة بسبب شكاوى تتعلق بأسلوبه في الإدارة. وقد اعتذر سليمان، مُقرًا للصحيفة بأنه “كمؤسس مشارك، كان يدفع العاملين بقوة، وأحيانًا لم يكن أسلوبه الإداري بنّاءً”.
وفي مقابلة مع صحيفة الغارديان، علّق قائلاً: “ذلك كان قبل خمس سنوات. كنت شابًا، مجتهدًا ومتحمسًا، أعمل 14 ساعة في اليوم، وكان الأمر شاقًا. كما تعلمون، الإنسان يتطور مع الزمن ويتعلم من تجاربه”.
بعد مغادرته لغوغل، أسس سليمان شركة جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي تُدعى Inflection AI، حيث يشغل منصب المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي. تُعد هذه الشركة من الشركات التكنولوجية الاستهلاكية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتتميز بروبوت الدردشة الآلي Pi، الذي يُتيح، حسب الشركة، لأكثر من ستة ملايين شخص استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة شخصية ومتعاطفة.
رئاسة شركة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي
وأمس الأول انضم مصطفى سليمان إلى شركة مايكروسوفت لقيادة منتجات الذكاء الاصطناعي الاستهلاكية، سيكون سليمان مسؤولاً مباشرة أمام ناديلا، وسيكون مسؤولاً عن توسيع أعمال الذكاء الاصطناعي للمستهلكين.
وسيقدم سليمان تقاريره مباشرة إلى ساتيا ناديلا، وسيتم تكليفه بالإشراف على مشاريع مختلفة داخل عالم الذكاء الاصطناعي للمستهلك. تتضمن هذه المشاريع دمج كوبايلوت في ويندوز، وتعزيز قدرات المحادثة في محرك بحث بينغ. يمثل هذا خطوة مهمة لشركة مايكروسوفت حيث تقوم بتوحيد جهود الذكاء الاصطناعي للمستهلك تحت قيادة واحدة لأول مرة.
وقال سليمان في منشور على X: “يسعدني أن أعلن أنني انضممت اليوم إلى مايكروسوفت كرئيس تنفيذي لشركة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي (Microsoft AI). سأقود جميع منتجات وأبحاث الذكاء الاصطناعي الاستهلاكية، بما في ذلك كوبايلوت (Copilot)، وبينغ (Bing)، وإيدج (Edge)”.
أخيرًا يعتقد سليمان أنه والقادة في عمره بإمكانهم الآن قيادة المرحلة الجديدة من الذكاء الاصطناعي. في مقابلة مع الغارديان قال سليمان “أعتقد أننا نمر بمرحلة انتقالية بين الأجيال في الوقت الحالي“، مضيفًا “هناك القادة الحاليون الذين هم في منتصف الخمسينيات من العمر، وأمضوا 25 عامًا في وادي السيليكون وترقوا في الرتب إما كمؤسسين أو مديرين تنفيذيين، وهناك الجيل الجديد الذي يقود شركات الذكاء الاصطناعي، مثل سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI وأنا“.