منذ بضعة عقود مضت، ربما نكون قد تشاركنا نفس التجربة على الإنترنت، عندما بدأنا مع متصفح «إنترنت إكسبلورر» (Internet Explorer) من شركة مايكروسوفت، كما كان الحال بالنسبة لما يصل إلى 95 بالمائة من مستخدمي الإنترنت. كان المتصفح في ذروة هيمنته على الويب في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لم يكن لمايكروسوفت هذه الهيمنة على الإنترنت عبر متصفح «إنترنت إكسبلورر» لأنه كان الأفضل، بل لأن الشركة قامت بتضمين «إنترنت إكسبلورر» مع أنظمة التشغيل ويندوز، وتأكدت بالتالي من استحالة إزالته. لقد كان تثبيت متصفح بديل ممكنًا من الناحية الفنية ولكنه صعب، إذ لم يفكر أحدهم في تحمل عبء ذلك. أدى هذا إلى القضاء على معظم منافسي «إنترنت إكسبلورر» ومنح مايكروسوفت احتكارًا لمتصفحات الإنترنت كان مشابهًا للاحتكار الذي كانت تتمتع به على أنظمة تشغيل الكمبيوتر.
لم يكن لهذا الأمر أن يدوم. تدخلت وزارة العدل الأميركية ورفعت دعوى ضد شركة مايكروسوفت اتهمتها فيها بـ«إساءة استخدام قوتها الاحتكارية». باتت الحكومة الأميركية ممثلة في وزارة العدل وجهًا لوجه أمام مايكروسوفت. اقتنعت المحكمة بدفوع وزارة العدل وبات مصير شركة مايكروسوفت نفسها على المحك، فقد أصدرت المحكمة الجزئية الأمريكية لمقاطعة كولومبيا أمرًا قضائيًا بتقسيم مايكروسوفت إلى شركتين. لكن سرعان ما ألغت محكمة عليا جزءًا من هذا الحكم.
بعد ذلك قامت وزارة العدل بتسوية الأمر مع مايكروسوفت. كان على الشركة أن تبقى كيانًا واحدًا، لكنها دفعت الثمن. وبينما كانت محاصرة قضائيًا وتدفغ غرامات بالمليارات، خوفًا من القيام بأي تحركات كبيرة يمكن أن تثير المزيد من الغضب ضدها، ولم يعد مسموحًا لها بالهيمنة السابقة على الإنترنت من خلال متصفحها، ظهرت غوغل.
والآن، كما تقول وزارة العدل، تتكرر الدورة. وباتت غوغل تستخدم هيمنتها للقضاء على المنافسين، وحرمان المستهلكين من هكذا إبداع وضع غوغل على الخريطة في المقام الأول.. ولكن ما القصة؟
في الرابع من سبتمبر الجاري، كانت شركة ألفابت الشركة الأم لـ غوغل تحتفل بالذكرى الـ25 على التأسيس. بينما كانت الشركة تحتفل كانت في الوقت ذاته تستعد لبدء المحاكمة في أكبر قضية احتكار للإنترنت في التاريخ. في الثاني عشر من سبتمبر الجاري، بدأت الدعوى القضائية التي رفعتها وزارة العدل ضد احتكار محرك بحث غوغل، ستكون هذه أول محاكمة لمكافحة الاحتكار تتبع الممارسات التجارية لشركة التكنولوجيا الكبرى.
اقرأ أيضًا.. صراع مواهب الذكاء الاصطناعي.. كيف استقطب ماسك علماء من غوغل؟
هيمنة غوغل
«إذا خسرت وزارة العدل هذه القضية، يصبح السؤال خطيرًا للغاية حول ما الذي ستفعله؟ بخلاف قانون أصدره الكونغرس، هل هناك أي طريقة ستتيح للمحكمة تطبيق قانون مكافحة الاحتكار على نماذج الأعمال والتقنيات الجديدة؟»، يقول هارولد فيلد، نائب الرئيس الأول في «بابليك ناوليدج»، وهي مجموعة مناصرة للإنترنت المفتوح، في مقابلة مع صحيفة «فوكس – vox» الأميركية.
هذا يعني أن هذه القضية قد تغير مقدار القوة التي تتمتع بها تلك المنصات، وكيف يُسمح لها بممارستها. سيتلخص ذلك في سؤال بسيط: ما هو محرك البحث الذي تستخدمه، ولماذا؟
الجزء الأول من الإجابة ليس محل نزاع. إذا كنت مثل 90% من الأمريكيين، فإن الإجابة هي «غوغل»، الذي بات مرادفًا للبحث على الإنترنت لعقود من الزمن. أما الجزء الثاني من الإجابة فهو ساحة المعركة. تقول غوغل لأنه أفضل محرك بحث على الإطلاق. فيما تقول وزارة العدل والمدعون العامون من كل ولاية وإقليم تقريبًا في أميركا إن السبب في ذلك هو أن غوغل تدفع لمجموعة كبيرة من الشركات – بدءًا من آبل إلى شركة الاتصالات اللاسلكية فيرايزون (Verizon) مليارات الدولارات سنويًا لجعل بحثها هو البحث الافتراضي على الغالبية العظمى من الأجهزة والمتصفحات.
نمت شركة غوغل خلال 25 عامًا فقط لتصبح قيمتها 1.7 تريليون دولار وتمتلك حيزًا كبيرًا مما نقوم به عبر الإنترنت. وأصبح محرك البحث أكبر مصدر لإيرادات جوجل حتى الآن. وشكلت الإعلانات على شبكة البحث ما يقرب من 60 بالمئة من إيرادات الشركة في عام 2022، بما يصل إلى 162.45 مليار دولار.
بحسب تقرير لصحيفة فوكس الأميركية، فإنه نظرًا لأن الكثير من إيراداتها تعتمد على شعبية محرك البحث، فإن غوغل على استعداد لإنفاق الكثير من المال لضمان أن يكون هذا هو البحث الافتراضي في أكبر عدد ممكن من المتصفحات. تقوم الشركة بدفع مليارات الدولارات كل عام لمطوري المتصفحات، والشركات المصنعة للأجهزة، وشركات الهاتف لكي يصبح غوغل محرك البحث الافتراضي في كل مكان تقريبًا. التقديرات تشير إلى أنها تصل إلى 20 مليار دولار سنويًا لشركة آبل وحدها.
تقول وزارة العدل إن هذا الأموال ساعدت غوغل في الحفاظ على هيمنتها وجعلت من المستحيل على أي شخص آخر المنافسة. عدد قليل جدًا من الشركات لديها مليارات الدولارات لتنفقها. أو كما قالت وزارة العدل، إنها «تخلق دورة مستمرة ومعززة ذاتيا من الاحتكار».
اقرأ أيضًا.. جيميني.. تعرّف إلى أداة غوغل الجديدة المنافسة لـ«تشات جي بي تي»
كيف استفادت غوغل من هذه الهيمنة؟
تمكنت غوغل من خلال فرض هيمنتها على الإنترنت من القضاء على المنافسين، وإجبار المعلنين على أسعار معينة مقابل الإعلان عن منتجاتهم عبر محرك البحث، وأخيرًا «تسببت في خنق الابتكار» بحسب دعوى وزارة العدل.
رفعت عدد من الشركات المنافسة والتي تمتلك محركات بحث «إكسبيديا» (Expedia) و«يليب» (Yelp)، دعاوى قضائية ضد غوغل اتهمتها بإلحاق أضرار بها بعدما جعلت محرك البحث الخاص بها موجود افتراضيًا على أجهزة أندرويد، وأجهزة إنترنت الأشياء.
هناك محركات بحث أخرى، لكنها تكافح من أجل الحصول على حصة في السوق. تمتلك شركة مايكروسوفت محرك البحث «بينغ»، الذي يمثل حاليًا 6.4 بالمائة فقط من السوق الأمريكية، وكذلك محرك بحث ياهو! الذي يستخدم بينغ، يمثل 2.4 بالمائة أخرى. هناك أيضًا «دك دك غو» DuckDuckGo، الذي يحاول التنافس مع غوغل كبديل للحفاظ على الخصوصية. لكنها لا تملك سوى جزء صغير من السوق، وهي تلقي باللوم على اتفاقيات غوغل مع الشركات الأخرى لجعل محرك البحث افتراضيًا لديها.
على الرغم من أن «دك دك غو» يوفر شيئًا قيمًا للغاية يريده الناس ولا توفره غوغل – الخصوصية الحقيقية – إلا أن غوغل تجعل من الصعب للغاية استخدامه افتراضيًا. وقال كميل بازباز، المتحدث باسم «دك دك غو»، في بيان: «نحن سعداء بأن هذه القضية ستواجه أخيرًا يومها في المحكمة».
من جهة أخرى تقول وزارة العدل في دعواها إن الافتقار إلى الاختيار يؤدي أيضًا إلى خنق الابتكار. ومن المرجح أن تجادل وزارة العدل بأن جودة منتج غوغل قد انخفضت مع تزايد رسوخ هيمنتها، وهو ما يضر بالمستخدمين.
كما أضرت غوغل بالمنافسين، الذين لا يستطيعون الحصول على موطئ قدم في السوق، وفقًا لوزارة العدل. فقد أثر ذلك على المعلنين، الذين يتعين عليهم دفع ما تفرضه غوغل مقابل الإعلان عبر محرك البحث.
اقرأ أيضًا.. ليون جونز.. آخر الثمانية المؤسسين للذكاء الاصطناعي يغادر غوغل
لماذا لا يتجه المستخدمون إلى بديل غوغل؟
وعلى الرغم من أنه من الممكن للمستخدمين التبديل إلى محرك بحث مختلف، إلا أن هناك أيضًا عدد لا يحصى من الدراسات التي ستخبرك بمدى صعوبة التغلب على جمود المستهلك. الغالبية العظمى من الناس يفضلون كل ما هو موجود، ولهذا السبب تدفع غوغل المال مقابل التواجد هناك. إن دفاع مايكروسوفت عن إمكانية قيام الأشخاص بتثبيت متصفحات بديلة إذا اختاروا ذلك لم ينجح منذ 25 عامًا. لا تعتقد وزارة العدل أنها يجب أن تعمل الآن.
كيف ترد غوغل؟
من جانبها، تؤكد غوغل على أنها محرك البحث الأكثر شعبية لأنه الأفضل على الإطلاق، مما يمنح مستخدميها النتائج الأكثر فائدة وذات صلة.
وتقول الشركة إن الشركات التي تختار بحثها ليكون البحث الافتراضي لمنتجاتها تفعل ذلك لأنه أفضل، وليس لأن غوغل تدفع لها. ويستخدم المستهلكون غوغل لأنه الأفضل، وليس لأنه موجود عند تشغيل هواتفهم الجديدة أو تشغيل متصفح أجهزة الكمبيوتر الجديدة لأول مرة.
وقال كينت ووكر، رئيس الشؤون العالمية في جوجل، في تدوينة: «لا يستخدم الناس جوجل لأنهم مضطرون إلى ذلك، بل يستخدمونه لأنهم يريدون ذلك»، مضيفًا أن «تسهيل حصول الأشخاص على المنتجات التي يريدونها يفيد المستهلكين ويدعمه قانون مكافحة الاحتكار الأمريكي».
اقرأ أيضًا.. وداعا لـ«الروابط العشرة الزرقاء».. تغيير ثوري في نتائج بحث غوغل
هل ستواجه غوغل مصير مايكروسوفت؟
«إذا آمنت المحكمة بادعاءات وزارة العدل، فإن غوغل تفعل بالضبط ما فعلته مايكروسوفت في كثير من النواحي، وأن الحجج التي اتبعتها غوغل هي نفسها حجج مايكروسوفت وجميعها فشلت». يقول غاري ريباك، محامي مكافحة الاحتكار الذي كان له دور فعال في إقناع وزارة العدل برفع القضية ضد مايكروسوفت في ذلك الوقت وحاول الحصول على موافقة لجنة التجارة الفيدرالية.
وكما يقول ريباك، فقد رأينا العديد من هذه المفاهيم مرفوعة في قضية مايكروسوفت منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. لذا يجب أن يكون لدينا قانون ينص على أن بعض الممارسات المماثلة أو المشابهة جدًا التي تنخرط فيها غوغل هي غير قانونية.
وقال ويليام كوفاتشيتش، الذي شغل منصب رئيس لجنة التجارة الفيدرالية في عهد جورج دبليو بوش: «منذ مايكروسوفت، كان هناك قراران من المحكمة العليا يتسامحان، من خلال موقفهما ونهجهما، مع سلوك الشركة المهيمن’. ‘إن موقفهم تجاه المدعين لم يكن سخياً كما كانت محكمة الاستئناف في قضية مايكروسوفت».
إذا خسرت شركة غوغل القضية، فإنها ستواجه احتمال تقسيمها إلى شركات أصغر (وهو الإجراء المتطرف الذي تطالب به وزارة العدل، ولكنه لم يسمع به من قبل) أو منعها من تقديم اتفاقيات البحث الافتراضي هذه. يمكن أن ننظر إلى غوغل مختلف تمامًا، أو سنتمكن من معرفة محرك البحث الذي يختاره المستخدمون عندما لا يكون غوغل هو محرك البحث الافتراضي.
إذا خسرت وزارة العدل، فهناك عدة طرق للنظر إلى الأمر. الأول هو أن هذا دليل على أن جوجل لا ترتكب أي خطأ ويجب السماح لها بمواصلة العمل كما فعلت دائمًا، دون استهدافها بشكل غير عادل من قبل الحكومة بأجندتها المناهضة لشركات التكنولوجيا الكبرى.