تخيل للحظة أن تقف على عتبة التاريخ، حيث يفصلك قرار واحد عن امتلاك ثروة تقدر بمليارات الدولارات. هذا ليس خيالًا بل واقع عاشه كورتيس بريم، الرئيس التكنولوجي الأول لشركة إنفيديا (Nvidia). لو أن بريم احتفظ بأسهمه في الشركة، لكان اليوم يحتل المرتبة السادسة عشر بين أثرياء العالم.
كورتيس بريم، الشريك المؤسس لإنفيديا بجانب الرئيس التنفيذي جنسن هوانغ، اختار مسارًا مختلفًا حيث باع جميع أسهمه قبل سنوات، وقرر التبرع بجزء كبير من ثروته لمعهد رينسيلار للفنون التطبيقية، جامعته الأم.
مسيرة كورتيس بريم الفنية والتكنولوجية
بريم، الذي كان يعشق الفنون والرسم، بدأ رحلته الأكاديمية في معهد رينسيلار للفنون التطبيقية. لكن شغفه بالتكنولوجيا قاده إلى تغيير مساره، فتخرج من المعهد بدرجة في الهندسة الكهربائية وهندسة الكمبيوتر عام 1982. بدأ حياته المهنية في شركة Vermont Microsystems كمهندس موظفين، ثم انتقل للعمل كمهندس أجهزة في GenRad، قبل أن يستقر في كاليفورنيا ليعمل بشركة Sun Microsystems لمدة سبع سنوات.
ومن المثير للاهتمام أن بريم فضّل معهد RPI على معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الشهير، جزئيًا بسبب رغبته في استخدام جهاز كمبيوتر IBM فاخر كان بحوزته. وقد وجد في RPI المكان المثالي الذي يجمع بين شغفه بالتكنولوجيا والفنون.
في عام 1993، وُلدت فكرة إنفيديا (Nvidia) بين جدران مطعم «ديني» حيث اجتمع كورتيس بريم مع زميله في «Sun Microsystems»، كريس مالاتشوسكي، وجنسن هوانغ، المهندس في «LSI Logic»، لمناقشة بناء شريحة رائدة. ويُنقل عن بريم قوله: «كنت المهندس المعماري الذي رسم المخطط الأساسي لخوارزميات رقائق إنفيديا، والتي كانت تعمل في الغالب خلف الستار»، كما ذُكر في مجلة «فوربس.».
وكانت هناك مقولة شهيرة في إنفيديا تقول: «لا تضع كورتيس أمام الكاميرا، ولا تضع كورتيس أمام العميل». لكن هوانغ أكد قائلاً: «كان كورتيس بالفعل ممتازًا مع العملاء».
اقرأ أيضًا: تجاوزت أبل وستتفوق على مايكروسوفت.. هل تصبح إنفيديا الشركة الأعلى قيمة سوقية في العالم؟
كورتيس بريم: البيع الذي غيّر المصير
في عام 1999، شهدت شركة إنفيديا (Nvidia) تحولين محوريين: أولًا، طرحت أسهمها للاكتتاب العام بقيمة سوقية بلغت 1.1 مليار دولار، وثانيًا، ابتكرت وحدة معالجة الرسومات «GPU»، التي كانت تستخدم في الأصل لتحرير الفيديو والألعاب، لتصبح فيما بعد ركيزة أساسية في صناعة الحوسبة.
في يوليو من نفس العام، عقد بريم قرانه على زوجته الأولى فيرونيكا، وبعد شهرين فقط، أسس «مؤسسة عائلة بريم الخيرية»، مستثمرًا فيها أكثر من ثلاثة أرباع حصته في إنفيديا، التي كانت تقدر بـ12.8%، أي ما يعادل حوالي 100 مليون سهم بالأرقام الحالية.
كورتيس بريم، المخترع صاحب الـ200 براءة اختراع تقريبًا، والذي ساهم في تصميم أول معالج رسوميات للحواسيب الشخصية في الثمانينات، وكان أحد مؤسسي إنفيديا ومديرها التكنولوجي، اختار بعد الاكتتاب العام للشركة تحويل معظم أسهمه إلى مؤسسته الخيرية، مفضلًا ضخ الأموال فيها بدلًا من الاحتفاظ بالأسهم.
لم يكتفِ بذلك، فبعد سنوات قليلة، غادر الشركة، جزئيًا بسبب قضية مثيرة للجدل، وبحلول عام 2006، كان قد باع ما تبقى من ثروته. وقد تبرع بجزء كبير منها للمؤسسات التعليمية، واشترى منزلًا بقيمة 6 ملايين دولار في فريمونت بكاليفورنيا، حيث يعيش الآن بعيدًا عن صخب الحياة العصرية، مع خدمة خلوية غير موثوقة، ويكرس وقته لكتابة أوراق مليئة بالمعادلات تبحث في حلول لمشاكل العالم مثل إصلاح الأرض.
ويُعرف عنه تواصله الفريد، حيث يستخدم عناوين بريد إلكتروني مكونة من سلسلة أرقام تصل إلى ستة عشر رقمًا لتجنب البريد العشوائي، وهو ما فعله حتى مع مراسل مجلة فوربس. وفي عام 2021، اقتنى طائرة خاصة من طراز «Gulfstream G450» أطلق عليها اسم سنوبي (Snoopy)، ويستخدمها الآن لزيارة معهد «RPI» أربع مرات في السنة.
اقرأ أيضًا.. ماذا تقدِّم شركة إنفيديا وما سر تفوّقها؟
السخاء الملياري: كورتيس بريم ومسيرة العطاء
كورتيس بريم، الذي يبلغ من العمر 64 عامًا، لم يكتفِ بإنشاء مؤسسة خيرية، بل تعدى ذلك إلى تقديم دعم سخي لمعهد رينسيلار بوليتكنيك للفنون التطبيقية. فقد أسهم بمبلغ ضخم قدره 40 مليون دولار لتطوير المعهد بين عامي 2003 و2008، مؤكدًا بذلك على التزامه العميق تجاه جامعته الأم.
وفي إطار هذا الالتزام، ساهم بريم مؤخرًا في تمكين المعهد من اقتناء كمبيوتر «IBM»، ليصبح بذلك أول جامعة على مستوى العالم تحظى بهذه التقنية، ومن المنتظر أن يُشغّل هذا الكمبيوتر خلال العام الجاري، مما سيشكل نقطة جذب لألمع العقول والمواهب.
لم تتوقف مساهماته عند هذا الحد، فمنذ عام 2001، قدم بريم تبرعات بلغت 275 مليون دولار لـ«RPI»، وهو ما يمثل 40% من إجمالي التبرعات التي استقبلها المعهد خلال تلك الفترة. وقد تعهد أيضًا بتقديم 80 مليون دولار إضافية، مواصلًا بذلك رحلته الكريمة في دعم التعليم والبحث العلمي.
اقرأ أيضًا.. «مهمة شاقة».. رئيس شركة إنفيديا يشارك تجربة تأسيس عملاق الرقائق الإلكترونية
ندم كورتيس بريم
أعرب كورتيس بريم عن ندمه لبيعه أسهمه في شركة «إنفيديا»، وخلال مقابلة أُجريت في حرم جامعة «RPI» بمدينة تروي التاريخية في نيويورك، تحدث بصدق عن تبرعاته وأسباب مغادرته لـ«إنفيديا» وشعوره بالندم. اعترف بأنه ما زال يفكر في الشركة مرتين في اليوم، كلما وضع ساعته «Omega Speedmaster XK» وأزالها.
وأضاف قائلاً: «لقد قمت بعمل شيء غير عادي، وكنت أتمنى لو أنني احتفظت بمزيد من أسهم «إنفيديا»، ولكن جامعة RPI كانت المكان الأمثل لاستثمار الأموال وأيضًا لإيجاد المعنى والراحة».
وأكد: «كنت أعاني من جحيم في الخارج، وكانت جامعة RPI بمثابة ملاذي الآمن. لقد أصبحت مصدر سعادتي واستقراري النفسي».
وأوضح أن من بين الأسباب التي دفعته لبيع حصته في «إنفيديا» هو رغبته في تجنب دفع الضرائب للحكومة في حالة بيعه لمجموعة من الأسهم.
وتذكر بريم أنه عندما نظر إلى حصته في ذلك الوقت، كان يعتقد أنها ستصل قيمتها إلى حوالي 50 مليون دولار.
وبعد مرور سنوات وارتفاع قيمة «إنفيديا»، عبّر بحزن عن قراره ببيع الأسهم، قائلاً: «كانت ميزتي أنني لم أكن قادرًا على التنبؤ بالمستقبل».
وأشار بريم إلى أن مؤسسة عائلة بريم تمتلك الآن أصولاً تقدر بـ160 مليون دولار، وهي في طريقها للتصفية بحلول عام 2031، لكنه غير متأكد من استمرارية الأموال لتلك المدة بسبب المبادرات الجديدة التي يقرر تمويلها في جامعة RPI.
واختتم قائلاً: «لا نستطيع التوقف عن الإنفاق، لذا من المحتمل أن تنفد الأموال قبل ذلك، وعندما يحدث ذلك، سأتقاعد».
اقرأ أيضًا.. جنسن هوانغ يعلن ثورة صناعية جديدة على الأعتاب بقيادة إنفيديا